كأن العالم ما يزال غارقًا في سبات عميق.
الشارع الذي كان يعجّ بالحركة في وقت لاحق من اليوم خاليًا تمامًا الآن.
المباني.. الشوارع.. الأشجار... كل شيء بدأ في صمت عميق، وكأن الزمن نفسه توقّف للحظة، استفاقت روحه قبل جسده لم يكن يعرف لماذا.
لكن الفجر كان يحمل معه شيئًا غريبًا نوعًا من السكينة التي لم يجدها في أي وقت آخر كانت الساعة تقترب من الخامسة صباحًا والسماء ما تزال مظلمة لكن في الأفق كانت هناك خيوط الشمس الضعيفة تكاد تلامس الأرض.
"لماذا الفجر؟" تساءل في نفسه وهو يقف على شرفته يتنفّس هواء الصباح البارد.
هواء لم يشعر به من قبل كما لو كان قد استعاد رئتيه بعد سنوات طويلة من التوتر والضغوط.
"أشعر كأنني طائر" همس بها بصوت خافت مغمضٌ عينيه لحظة وهو يستنشق هذا الهواء المنعش.
وكأن كل همومه قد انزاحت دفعة واحدة وكل ما حوله كان يرحب به كما لو كان يعود إلى مكانه الطبيعي.
لكن لماذا يشعر هكذا؟ لماذا هذا الوقت تحديدًا يُشعره بكل هذا السلام؟
أليس الوقت الذي يسبق الشروق هو الوقت الذي يتنفّس فيه العالم ببطء ويستعد لبداية جديدة؟
ربما يكون ذلك هو السبب.
في هذا الوقت بالتحديد كانت الأرض كلها تتنفّس لا ضوضاء في الأفق لا أصوات السيارات المزعجة ولا أضواء الشوارع الخانقة.
كان كل شيء هادئًا.. مريحًا.. كما لو كانت الحياة قد أخذت لحظة لتتأمّل هي الأخرى.
فجأة، أدرك السبب:
"إنه الفجر."
في ذهنه بدأت الأفكار تتسابق بشكل غير متوقع متسلسلة وكأنها حكاية قديمة يرويها الزمان نفسه.
الفجر ليس مجرد وقت في اليوم.. ليس مجرد ساعة عابرة.. الفجر هو لحظة من السكينة التي نحتاجها نحن البشر.. لحظة نعود فيها إلى أنفسنا.. لحظة تتفتح فيها أرواحنا كما تتفتح الأزهار في أول ضوء للشمس.
الفكرة واضحة الآن.. الفجر كان يحمل معه ثلاثة جوانب أساسية تمس أعماق الإنسان.
أولًا: نفسيًا ودينيًا
في هذا الوقت يبدو وكأن العالم بأسره قد قرر أن يظل صامتًا وأن يترك الإنسان ليجد راحته في وحدته.
لا ضوضاء.. لا صراخ.. لا مكالمات هاتفية.. فقط الهدوء.
الناس نيام والأرواح مسترخية حتى العقل هو الآخر بدأ في حالة هدوء لم يشعر بها منذ فترة طويلة.
"هذا الوقت ملكي... لا أحد هنا سواي... لا شيء يعكر صفو لحظتي."
ثم تذكّر كيف أن هذا الوقت يرتبط ارتباطًا وثيقًا بجانب روحي عميق في نفسه.
الوقت الأنسب للصلاة.. للتأمل.. وللتدبّر.
القرآن يضيء القلب في هذه اللحظات وكانت الكلمات تتسلسل في ذهنه دون أن يدرك.. في الفجر يجد الإنسان نفسه في أقرب نقطة لله في أقرب نقطة لصفاء روحه.
ثانيًا: بيئيًا
بخطوات بطيئة ابتعد عن الشرفة وخرج إلى الحديقة الصغيرة خلف المنزل.
لم تكن الأرض قد دفعت عنها بعد غطاء الليل وكان كل شيء في الطبيعة يبدو مستعدًا للانبعاث مجددًا. الهواء في هذا الوقت لا شيء يضاهي نقاءه، الهواء نقي خالي من التلوّث يملأ رئتيه بنعومة كأنما يعيد إحياءه من جديد.
وكانت المفاجأة الأكبر للفجر:
هرمون الكورتيزول الذي يعزز النشاط الذي يكون في أعلى مستوياته بشكل طبيعي، وهرمون الميلاتونين المسؤول عن النوم بدأ في الانخفاض مما جعله يشعر بحالة من اليقظة الذهنية والبدنية.
"إنه الفجر" قالها لنفسه وهو يبتسم "كل شيء هنا في مكانه الصحيح."
ثالثًا: الشعور بالإنجاز
ورغم أنه لم يكن قد بدأ يومه بعد إلا أن الشعور بالإنجاز كان يعمّ قلبه.
لقد استفاق مبكرًا بدأ يومه في الوقت الأمثل.
وهذا وحده كان يكفي ليشعر بأن الأمور تحت سيطرته.
بعد ساعات من النوم كان عقله في حالة من الصفاء التام.
كانت الموجات الدماغية في حالتها المثالية وكأنه في حالة تأمل عميقة.
كل فكرة كانت أكثر وضوحًا وكل قرار كان أسهل.
"هذا هو الوقت الذي أحتاجه إنه وقت الإنجاز."
في تلك اللحظة، أدرك أنه لا يمكنه أن يضيع هذه اللحظات الثمينة.
"الفجر وقتي أنا."
لا أحد يشاركه فيه.
فهو الوقت الأمثل للإنجاز.. للتفكير العميق.. ولإعادة شحن الطاقة.
وبينما كانت الشمس قد بدأت تشرق ببطء كان هو قد بدأ يومه بقلوب هادئة وأفكار واضحة.
كان يومًا جديدًا والفجر هو البداية.