في وطنٍ جُبلت أرضه بالدمع والدم.. وتزينت جباله بالشهداء.. لا تزال فلسطين تنزف... ويعلو من تحت الركام صوتٌ لا يقهره الدمار ولا تكبته الحروب، في غزة؛ تلك البقعة الصغيرة المحاصرة لا يُسمع فيها إلا أزيز الطائرات وصراخ الأطفال، ورغم ذلك يعلو الصوت: صوت الصمود وصوت الكرامة وصوت الحياة.
غزة ليست مجرد اسمٍ في نشرة أخبار، بل هي مدينةٌ تئن تحت وطأة حصارٍ تجاوز خمسة عشر عامًا، وعقوبات جماعية حوّلت حياة أهلها إلى صراعٍ يومي من أجل البقاء، الكهرباء تُقطع لساعاتٍ طويلة والمياه ملوثة والدواء شحيح، لكن رغم كل هذه الكوارث يواصل الإنسان الغزّي المقاومة بابتسامة ويقيم الأفراح ويُكمل تعليمه وسط الأنقاض.
كل عدوانٍ جديد يترك خلفه أحياءً كاملة تحولت إلى أنقاض، أطفالٌ يبحثون بين الركام عن لعبتهم المفقودة، أمٌ تحتضن صورة شهيدها، وأبٌ يحاول بصمتٍ إعادة بناء ما تهدّم، ورغم ذلك لا يطفأ الأمل من تحت الركام، يخرج طفلٌ يحمل حقيبته متوجهًا إلى مدرسةٍ أُعيد افتتاحها في خيمة، فتاةٌ ترسم وطنها على الحائط، ومُعلّمٌ يشرح درسه بصوتٍ مبحوح من الدخان والقهر.
وفي قلب هذا الجحيم لحظةٌ لا تُنسى.. لحظةٌ يرتفع فيها صوت الأذان وسط كل هذا الدمار، طائراتٌ حربية تمزق السماء.. صواريخٌ تمطر البيوت.. وصرخاتٌ تملأ الليل... ثم فجأة، يأتي صوت الأذان:
"الله أكبر... الله أكبر"
صوت المآذن يخترق الغبار ويعلو فوق صوت الانفجارات ويمتزج بنداءات فرق الإنقاذ وهي تبحث عن أحياء، وببكاء الأمهات تحت الركام.
كأن السماء تصلي، وكأن الله يواسي عباده.
في غزة، الأذان ليس مجرد نداءٍ للصلاة، بل هو صرخةٌ في وجه الموت، إثباتٌ على أن الروح لم تُهزم وأن الحياة ما زالت تنبض رغم كل شيء.
الصوت الذي يعلو من تحت الركام ليس مجرد صرخة ألم، بل هو نداءٌ للعدالة ورسالةٌ للعالم وشهادةٌ على جرائم تُرتكب في وضح النهار، إنه صوت أمهات الشهداء وصوت المسعفين تحت النيران وصوت الإعلاميين الذين يحملون الميكروفون والكاميرا سلاحًا، ينقلون الحقيقة مهما كلف الأمر، كما فعلت الشهيدة شيرين أبو عاقلة في الضفة، وكما فعل العشرات في غزة.
الهوية التي لا تُمحى...
يحاول الاحتلال بكل وسائله طمس الهوية الفلسطينية ومن خلال التهجير والتجريف والقتل الممنهج، لكنه لا يعلم أن هذه الهوية مغروسةٌ في وجدان كل طفلٍ فلسطيني، في زينة رمضان وفي مفاتيح البيوت المهجّرة وفي "الكوفية" التي يرتديها الشباب بفخر وفي الحنين الذي تحمله الجدّات لحيفا ويافا والقدس.