لم أكن أعرف ما هوية هذه المشاعر المختزلة.. ولم أكن أعلم أنني أسيرة موقفٍ واحد.. أسيرة خذلانِ شخصٍ مضى وأنا لم أَمضِ... لم أكن أعلم أنني أسرتُ روحي بيدي دون إدراك.
أجلس في آخر مقعدٍ بالصفِّ الفارغ بجانب النافذة في أوقات الظهيرة... المدرسة كبيرة لكنها فارغة إلا من عددٍ قليلٍ من الطلبة.. أسمع أصوات الطلاب من داخل المدرسة وهم يضحكون ويتحدثون، وأسمع أصواتَ نجارةٍ وحدادة؛ فقد قررت الإدارة إعادة تأهيل المدرسة.
أستمتع بالهواء اللطيف الذي يتسابق إلى الداخل.. كلُّ موجةِ هواءٍ أشعر بها تحمل معها ذكرى لا تُنسى.. ذكرى حفرت في الأعماق.. مع كل موجة هواء أُغمض عيني وأبتسم لكن جوارحي تبكي.
هذا الهواء غريبٌ جدًّا يُبكي جوارحي لكنه يُشفي جسدي ويمنحني طاقةً كنت أبحث عنها منذ زمن.. ما هوية هذا الهواء؟ من أين أتى؟ سؤالان أحتاج إجابةً لهما، لكن لا إجابة حتى هذه اللحظة.
كانت الذكريات مؤلمة.. ذكرياتٌ مع شخصٍ لم أتوقع أن تكون نهايتنا هكذا.. كلُّ الذكريات كانت سعيدة، لكن أنا؟ كنت سعيدةً معظم الوقت لكن تأنيب الضمير رافقني في كل خطوةٍ أخطوها.
لم أكن أعلم أن الذكريات السعيدة لي هي ألمٌ لم يُشفَ بعد.. ماضٍ لم أتخطَّه وحزنٌ لم ينتهِ بعد.. لم أكن أعلم أن ذلك الفراق سيكون بدايةً لمتاهتي الأولى وأسئلةٍ أطول لمعرفة إجاباتٍ لها.
هل أنا المخطئة؟ هل هذه خطيئة أحد؟ أهو ابتلاء؟ لربما كانت كلمة "أهلًا" هي السبب في كل هذا.
لم أتخيّل أبدًا أنني في يومٍ ما سأصبح أسيرة نفسي أسيرة موقف أسيرة فراقٍ محزن، كنت أظن أنني قويةٌ لأتجاوز أي شيء لكن الحقيقة أنني ما زلت هناك عند لحظة الرحيل... كلُّ الطرق كانت تؤدي إلى نقطة الصفر.
أحاول إقناع نفسي أن هذا قدرٌ مكتوبٌ محتوم.. وإذا لم تأتِ هذه الخطوة الآن فبعد ذلك سيكون الوضع أسوأ، كنت أعلم أنني اتخذت الخيار الصحيح لكنني حزينةٌ بسبب حزن الطرف الآخر وبسبب الذكريات التي اجتاحت عقلي.
أدركتُ أن أصعب سجن هو سجن النفس وأصعب صراع هو السؤال الداخلي الذي لا يراه أحد ولن يراه أحد.. فالمعاناة والألم الحقيقي ليس عند إظهاره؛ بل عند إخفائه والظهور بثبات لأن المعركة ليست بين القلب والعقل والروح فقط بل بين الإنسان ونفسه.
المفتاح الذي كنتُ أنتظره منذ سنواتٍ ليفتح لي أبواب الوعي والإدراك قد جاء لكنه يحتاج وقتًا للوصول إلى تلك النقطة التي يمكن عندها فهم كل شيء: نقطة البداية ونقطة النهاية، لم أُرِد أن أُعطي هذا الألم الأمل ليسيطر عليّ لذلك قاومت.. لم أُرِد أن أُعطي الألم فرصةً ليسيطر عليّ فقاومتُ الرغبة في الاستسلام وحاولت أن أخلق من حزني معنى ومن وجعي طريقًا.
نظرتُ إلى النافذة مجددًا.. فإذا بالهواء يتسلل إليّ وكأنه يُربّت على قلبي المتعب ليوصل لي رسالةً أن هذا الحزن سيمر وأن هذه ليست النهاية؛ بل بدايةٌ لحياةٍ جديدةٍ بتجاربَ سابقةٍ وأملٍ متجدّد.