مررتُ ذات مساءٍ هادئ، كأنني أتنقّل بين فصولٍ من كتاب التاريخ…
أحمل في صدري ذاكرة الشعوب، وأسير فوق ترابٍ عرف البدايات، ووشحته النهايات.
وإذا بي أصل إلى مخيم مادبا… ظننته محطة عابرة، فإذا به حضنٌ دافئ، ووطنٌ صغير ينبض بالعروبة.
تأملت الوجوه… فشعرت أنني أرى ملامح جدّتي، وابتسامة جدّي حين كان يزرع القمح ويرتّل للسلام
وفي الأزقة الضيقة، لم يكن العطر عطراً فحسب، بل دعوة قهوة تطلّ من النافذة، وخبزاً ساخناً يُقسم بمحبة، وكأن له نصيب في كل قلب عابر.
يا الله… كم كبر هذا المكان في قلبي، وكم تضاءلت أمامه المدن التي بلا دفء.
في مخيم مادبا، لم أرَ الفقر كما كتبوا عنه… بل رأيت الغنى: غنى النفس، وغنى الكرامة، وغنى الحب النقيّ الذي لا يُشترى.
هنا، لا يسألك الناس من أين أنت، بل يسألونك:
"أكلت؟ ارتحت؟ بدك شي؟"
وكأنك ابن الدار، وإن لم يعرفوا اسمك
ليس مخيماً فقط… بل صورة لما يجب أن تكون عليه أمتنا: تماسك وقت الشدة، وكرم في الرخاء، ومحبّة لا تنتظر مقابل.
خرجتُ من المكان، لكنه لم يخرج مني.
وسأظل أروي عنه كما يروي الطفل عن بيتٍ لم يغادره… وربما لم أغادره فعلاً.
لأني حين مررت به، وجدت الإنسان الذي كنت أبحث عنه في كل محطات التاريخ:
الإنسان العربي… كما يجب أن يكون.