فتاة جالسة فوق سريرها صامتة تغطيها طبقة رقيقة من غبار الوحدة المؤلمة تروي أجمل الحكايات والقصص..
تلك الأوقات كانت مليئة بالبهجة والسرور ولم تخل من الرومانسية.. إلا أنها كانت مرسومة على صفحة الزمن الهارب، لتتحول إلى أطياف ذهبية تداعب الذاكرة الممتلئة ..فتذوب الذكريات المتجمدة لترهق عيونها الزرقاء التي بدت كبحر مليء بالأسرار والألغاز.
لم تستطيع أن تغلب دموعها التي تتوق إلى الرحيل وهي تتأمل تلك الشهادة التي تتحدث عن أربع سنوات من الحياة الجامعية.
فقررت أن تحضر فنجانا من القهوة لعله يسعفها في استحضار الأيام الهاربة، إلى أحضان الماضي الدافئة حيث لا أحد يزعجها.. ووضعتها على النار وجلبت كرسيها الخشبي وجلست قرب النافذة المطلة على شارع مزدحم بالسيارات والمَارة الذين يحمل كل واحد منهم قصة من حياة كلها قصص واضعة يدها على خدها مستندة على حافة النافذة تقلب صفحات لم يبق في جوفها إلا حروف ممزقة..
فتدفق الناس على الرصيف يذكرها بتدافع الطلاب أوقات الامتحانات أمام القاعات الدراسية يترقبون ساعة الصفر للتخلص من هموم تراكمت على جدران أدمغتهم عبر ليالٍ من السهر والتشتت في غياب الكتب والدوسيات.
فوقع نظرها إلى شاب وسيم وفتاة شقراء يجلسان في المقهى المقابل لغرفتها.. وفي هذه الأثناء عبقت رائحة القهوة في أنفها فأغمضت عيناها وتبسمت محاولة تجميع الصور المنسية لكفيتيريا "محمد إقبال" فهناك كان للمكان نكهته الخاصة، حيث رائحة القهوة التي عانقت الجدران وتبعثرت على الطاولات ..وقد اختلط فيها شيء من رائحة السيجار المنبعث من أفواه الشبان..وقد بدأ عليهم أنهم قضوا وقتًا أمام المرآة وهم يتزينون ويتأنقون..لا يعجبها هذا النوع من الشبان..رغم أنهم يروقون للعديد من الفتيات.
لم تكن تلك اللحظات إلا مقدمة لرحلة ماسية كانت عالقة في ذاكرتها..تراودها بين الحين والآخر..فذلك الشاب الطويل المتفجر رجولةً ووقارًا وقد التقى حاجباه هو من جعلها تسقط عشرات.. وقد أسرها بمدينة تدب بالحياة والأمل.. مرصوفة بالورد.. وأساورها تلتهب بالعواطف والمشاعر الجياشة.. مدينة تتمناها كل صبية حالمة..
ولا يغيب عن بالها تلك الطاولة في نهاية الكفيتيريا.. حيث الهواء الطلق الذي ينعش الجسد خلال الصيف و الدفء الذي يلفها شتاءً.. فهي ترى أنها ولدت هناك وماتت هناك.. فتلك الطاولة كانت وكأنها رفيق لهما لا يستغنيان عنها أبدا.. لم تكن تصدق أنها ستودع تلك الرفيقة (الطاولة) ندما، جلس معها قبل الامتحانات النائية وكانت عيناه السوداويتان تتألقان لمعانًا في ذلك اليوم.. ووجهه يتدفق دفئًا وهو يخبرها بأنه لم يبقَ سوى أٌسبوعين على تخرجه وأنه حالما يتم معاملات التخرج سيجهز نفسه للسفر إلى دبي حيث يعمل والده في الشركة الأمريكية للاستيراد والتصدير.. وهي تترقب حدقات عينيه وتحركاتهما وكأنها تريد قراءة أوراق المستقبل..
وفي هذه اللحظات وهي متجمدة مكانها كأنها تمثال من العصر القديم استفاقت على رائحة الغاز الذي انتشر في المكان فارتعشت صائحة..القهوة.
فهرعت لتطفئ الغاز.. فوجدت القهوة قد جفت ولم يبقَ إلا حثلها.. فأخذت تتفحصها وكأنها تبحث عن شيء من فتات العمر.. فقلبت شفتيها وأطبقت جفنيها فبديا كستارتين اسدلتا على نافذتين أنهكتهما خيوط الشمس الحارقة وهي تدفع بدموعها إلى أعماقها متحدية براثن اليأس.