ظلت رأية العلم
خفاقة عدة قرون في معظم دول الغرب والشرق بفضل جهود العلماء العرب والمسلمين في
مختلف مجالات العلوم الانسانية، كالطب، والفلك، والجغرافيا، والفلسفة، والرياضة،
وغيرها بحسب ذكر كبار مؤرخي الغرب، بل ظلت تلك العلوم تدرس في جامعاتهم سنوات
طويلة، وكان علم الجراحة أحد العلوم الصعبة غير المعروفة لدى الأوروبيين حتى نهاية
القرن السابع عشر للميلاد.
ومن أشهر علماء
المسلمين وأهمهم الطبيب الجراح أبو القاسم خلف الزهراوي القرطبي الذي سبق علماء
اليونان بأبحاثه وتجاربه العلمية في التشريح، فهو أول من قام بأستعمال الآلات
الجراحية من العرب في عملياته الجراحية وبالأخص (استعمال المشرط) مخالفًا بذلك
تعاليم اليونان الاسبقين.
أبصر الطفل (أبو
القاسم) النور في حي الزهراء بقرطبة في ربيع عام (326) هجرية الموافق (936)
ميلادية، في وسط أسرة كريمة أشتهرت بالعلم والادب، وتتلمذ على يد عدد كبير من
الفقهاء وعلماء الأندلس الأجلاء ودرس في حياته الطب الإغريقي، وكانت مدينة الزهراوي
في ذلك الوقت دار العلوم والأدب في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (الثالث)، ويقال
أن أبا القاسم عمل طبيبا في بلاط الخليفة، وكان يجري بعض العمليات الجراحية
بالاستعانة بالآلات.
وبداية عهده
بالتأليف وضع كتابه القيم (التصريف لمن عجز عن التأليف) الذي كان له أعظم الأثر في
النهضة الأوربية طوال خمسة قرون.
يعد (كتاب
التصريف) من أهم المصادر في الجراحة للعالم الكبير أبي القاسم الزهراوي رغم أنه لم
يلقَ أيّ اهتمام من الخلفاء؛ لاعتمادهم علي طب أبي بكر الرازي والطبيب ابن سينا في
العمليات الجراحية، لكن كتاب التصريف لقي استحسانا من قبل الأطباء الأوربيين بعد
ترجمته.
ويحتوي كتاب
التصريف لأبي القاسم الزهراوي على وصف
دقيق لإجراء العمليات المختلفة، ويحتوي علي ثلاثين فصلًا موضحًا بالرسومات، مقسمًا
ومرتبًا في ثلاثةِ أقسام، ويتناول في القسم الأول: الطب الداخلي، والقسم الثاني:
في أسماء الأدوية والكيماء، والثالث: هو القسم المخصص للجراحة، كما يحوي كل قسم من
هذا الكتاب أبوابًا وفصولًا متكاملة لبعض العمليات الجراحية كأستخراج الحصي
والتفتيت، وعملية البتر، وحالات الشلل، وأساليب الكسر، الخلع، وصور الآلات الدقيقة
للعمليات.
وتتجلي
قيمة كتاب الزهراوي الطبية في أن العالم الطبيب أبا القاسم أول من فرق بين الجراحة
وغيرها من الموضوعات وجعل أساسها قائما علي درس التشريح.. وعالج حوادث النزيف
بالكي، ونجح في عملية شق القصبة الهوائية، وخلع الأسنان.
ويشير العالم
الجليل الطبيب أبوالقاسم الزهراوي إلى أهمية الكي، وطرق استعماله في استئصال الأورام
السرطانية، وقطعها قبل استفحالها وكان أول طبيب في العالم يفعل ذلك من تلك الحقبة.
وكتاب (التصريف)
يمتاز بكثرة رسومة، ووفرة أشكال الآلات التي كان يستعملها الزهراوي وأكثرها من
ابتكاره وبالأخص آلات الجراحة، واستعمال الأدوية المختارة من الأعشاب والنباتات
لتركيب الأدوية المختلفة، وهذا يوضح لنا اطلاع الزهراوي العظيم ومعرفته بالكيماء
وأنواع العقاقير آنذاك مما أدهش أطباء أوروبا وجراحيهم قبل أكثر من ألف عام، ولهذا
يُعد من أشهر أطباء العرب وجراحيهم بالأندلس لدرجة أن علماء الشرق والغرب اعتبروا
الزهراوي أستاذ العلم الجراحي.
وقد
قسم ابو القاسم الزهراوي في كتابة (التصريف لمن عجز التأليف)، وفيه يبين أن هناك
ثلاثة أقسام: قسم طبي، وقسم صيدلي، وقسم جراحي، ويذكر أيضًا عن التعقيم للجرح
وتطهيره بالكي (بالنار) ويتكلم على جراحة العين والأذن والأسنان.
وللزهراوي عدة
مقالات ورسائل في فن الطب والجراحة تحت عنوان (المقالة في عمل اليد على فن
الجراحة) لكن معظمها تعرض للضياع مع مرور الزمن.. وظل كتاب (التصريف) يحكي للأجيال
عبقرية هذا الطبيب العربي المسلم، وقد ترجمت مقالاته ورسائله إلى العبرية
واللاتينية بالبندقية عام1497 ميلاديه، وترجمت إلى عدة لغات عالمية أخرى.
وظل عالمنا الكبير
وطبيبا الفذ ابو القاسم خلف بن عباس الزهراوي بجاهد من أجل هدفه الأسمى في استئصال
الأمراض الفتاكة والخبيثة؛ وهو علي عتبة الثمانين من عمره دون كلل أوملل حتي لقي
وجه ربه تعالي في صيف عام 1013 ميلاديه.
وهكذا انطوت صفحة مضيئة من الفخر والاعتزاز إلى
الأبد بعد أن أمضي كل حياته في خدمة الإنسانية المعذبة، ولكن آثاره العلمية
والطبية ظلت باقية علي مر الزمن.