فِي لَيْلَةٍ خَرِيفِيَّةٍ مِنْ شَهْرِ أُكْتُوبَر نَظَرَتْ سَلْمَى إِلَى سَاعَتِهَا وَإِذْ بِهَا تَقْتَرِبُ مِنْ اَلثَّامِنَةِ مَسَاًء، وَبِخُطُوَاتٍ مُثْقَلَةٍ عَلَى كُرْسِيٍّ مُتَحَرِّكٍ تَوَجَّهَتْ إِلَى اَلتِّلْفَازِ لِتُشَاهِدَ أَخْبَارَ اَلثَّامِنَةِ؛ فَقَدْ أَخَذَتْ هَذِهِ اَلْعَادَةِ مِنْ وَالِدِهَا، وَبَدَأَ اَلْمُوجَزُ.. صُدِمَتْ كَانَ اَلْخَبَرُ " طُوفَان اَلْأَقْصَى ".
مَا هَذَا؟مَا اَلَّذِي يَحْدُثُ؟ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ اِشْتَعَلَتْ فَجْأَةَ فِي رَأْسِهَا.
ضَرْبٌ، قَصْفٌ، أَشْلَاءٌ، أَطْفَالٌ، وَبُيُوتٌ تَعَرَّضَتْ لِلْقَصْفِ وَالْهَدْمِ، إِصَابَاتٌ بِالْآلَافِ، شُهَدَاءٌ بِالْمِئَاتِ وَعَائِلَاتٌ مُشَرَّدَةٌ لَا مَأْوًى لَهَا.
بعينين تحملا اَلْحُزْنُ نَظَرَتْ إِلَى سَاقَيْهَا، وتَذْكَّرَتْ كَيْفَ تَعَرَّضَتا لِلْبَتْرِ؟ حيث كَانَتْ طَبِيبَةٌ نَشِيطَةٌ مَحَبَّةٌ لِعَمَلِهَا، وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُؤْلِمُهَا عِنْدَمَا تَقِفُ عَاجِزَةً عَنْ تَخْفِيفِ آلامِ اَلْمَرْضَى.
تَذَكَّرَتْ فَتْرَةُ اِشْتِعَالِ اَلْأَحْدَاثِ فِي لِيبْيَا. ذَلِكَ اَلْبَلَدِ اَلْعَرَبِيِّ اَلْإِفْرِيقِيِّ، عِنْدَمَا كَانُوا بِحَاجَةِ لِكَادِرٍ صِحِّيٍّ، وَطِبِّيٍّ لِلتَّطَوُّعِ فِي عِلَاجِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ؛ فَقَرَّرَتْ اَلانْضِمَامَ إِلَى مَجْمُوعَةِ أَطِبَّاءَ بِلَّا حُدُودَ، وَالسَّفَرَ إِلَى لِيبْيَا؛ لِتُسَاعِدَ زُمَلَائِها اَلْأَطِبَّاءِ فِي عِلَاجِ اَلْمَرْضَى وَالْمُصَابِينَ، كَيْفَ لا؟ وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يُحْزِنُهَا سَمَاعُ طِفْلٍ يَبْكِي أَوْ أُمٍّ ثَكْلَى، وكَيْفَ كَانَ يَزِيدُهَا عَزِيمَةً وَإِصْرَارًا وَمُثَابَرَةً عَلَى مُوَاصَلَةِ عَمَلِهَا وَ مُسَاعَدَتَهِمْ؛ فَكانَتْ كَالنَّحْلَةِ تَعْمَلُ مِنْ غَيْرِ كَلَلٍ أَوْ تَعَبٍ.
تَذَكَّرَتْ مَا حَدَثَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي اَلْحَرْبِ اَلطَّوِيلَةِ، وَخِلَالَ عَوْدَتِهَا مِنْ اَلْمُسْتَشْفَى إِلَى مَكَانِ إِقَامَتِهَا تَعَرَّضَتْ اَلسَّيَّارَةُ اَلَّتِي تَنْقُلُهَا وَزُمَلَائِهَا إِلَى هُجُومٍ مُسَلَّحٍ هُنَاك، مِمَّا أَدَّى إِلَى تَدَهورِ اَلسَّيَّارَةِ.
بَعْدَ مُرُورِ سَاعَاتٍ وَهِيَ تُعَانِي اَلْأَلَمَ تَحْتَ كَوْمَةِ اَلْحَدِيدِ تَمُرُّ سَيَّارَةً وَيَنْزِلُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ اِقْتَرَبُوا بِحَذَرِ مِنْهُمْ؛ فَبَدَأَتْ تَصْرُخُ : سَاعِدُونَا..أَخْرِجُونَا مِنْ هُنَا، كَانَتْ لَهْجَتُهَا غَرِيبَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ اَلْمُسَاعَدَة، فَبَدَأَ أَحَدُهُمْ بِرَفْعِ اَلْحَدِيدِ وَطَلَبَ اَلْمُسَاعَدَةَ مِنْ صَديقيهِ، وَبَعْدَ مُحَاوَلَاتٍ طَوِيلَةٍ تَمَّ إِخْرَاجَ الْجَميعَ، ثُمَّ قَامُوا بِإِيصَالِهِمْ إِلَى اَلْمُسْتَشْفَى وَعِنْدَ وُصُولِهَا تَمَّ إِسْعَافُهَا وَقَامُوا بمَا يَلْزَم مِنْ إِجْرَاءَاتٍ لِإِنْقَاذِ حَياتِها بَعْدَما بُتِرَت قَدَمَيْهَا، وَعِنْدَ اِسْتِيقَاظِهَا أَخْبَرَهَا اَلْأَطِبَّاءُ بِأَنَّ قَدَمَيهَا قَدْ بَتَرَتَا. فِي تِلْكَ اَللَّحْظَةِ اِسْوَدَّتْ اَلدُّنْيَا فِي عَيْنِيهَا وَهِيَ اَلَّتِي لَا تَكِفُ عَنْ اَلْحَرَكَةِ، وَالْجَرْيِ بَيْنَ غُرَفِ اَلْمَرْضَى لِتُسَاعِدَهُم، فَكَيْفَ تُصْبِحُ اَلْآنَ عَلَى كُرْسِيٍّ مُتَحَرِّكٍ؟
فِي تِلْكَ اَللَّحْظَةِ بِالتَّحْدِيدِ شَعَرَتْ بِأَنَّ حَياتُها اِنْتَهَتْ، وَانْ شَغَفُهَا اَلَّذِي لَطَالَمَا حَرَصَتْ عَلَيه، وَتَطَوُّعِهَا فِي مُنَظَّمَةِ أَطِبَّاءَ بِلَّا حُدُود قَدْ اِنْتَهَى.
بُعْدُ أُسْبُوعٍ ...
عَادَتْ سَلْمَى إِلَى بَيْتِهَا، وَلَكِنْ مَعَ رَفِيقِهَا اَلْجَدِيدِ ذَلِكَ اَلْكُرْسِيِّ اَلَّذِي لَنْ يُفَارِقَهَا بَعْدَ اَلْيَوْمَ.
بِرَعْشَةِ َيَدٍ عَلَى كَتِفِهَا أَعَادَتْهَا إِلَى اَلْوَاقِعِ، سَلْمَى.. سَلْمَى مَا بِكَ يَا اِبْنَتِي؟
سَلْمَى: أُمِّي أَلَّا تَرَيْنَ إِنَّنِي أُشَاهِدُ اَلْأَخْبَارُ؟
اَلْأُمُّ: وَلَكِنِّي وَجَدَّتِكَ شَارِدَةَ اَلذِّهْنِ يَا عَزِيزَتِي
سَلْمَى: أُنْظُرِي يَا أُمِّي، تَهْجِيرٌ ثَانٍ أَوْ ثَالِثْ لِهَذَا اَلشَّعْبِ اَلْجَبَّارِ آهٍ يَا أُمِّي عائِلاتٌ أَصْبَحُوا بِلَا بُيُوتِ وَتَحْتَ الْأَنْقَاذِ، مَا هَذِهِ اَلْقَسْوَةِ؟ وَمَا هَذَا اَلْعُنْفِ؟
نَظَرَتْ سَلْمَى إِلَى اَلْكُرْسِيِّ، وَقَالَتْ: آهٍ يَا أُمِّيٌّ لَوْ أَسْتَطِيعُ مُسَاعَدَتُهُمْ، وَلَكِنْ مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ وَأَنَا مِلْكٌ لِهَذَا اَلْكُرْسِيِّ؟
اَلْأُمُّ: فِكْرِي يَا بِنْتِي، فَهُنَالِكَ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقَةٍ لِلتَّطَوُّعِ وَالْمُسَاعَدَةِ. فَأَخَذَتْ سَلْمَى اَلْحَاسُوبِ، وَبَدَأَتْ تَتَصَفَّحُ اَلْمَوَاقِعُ اَلْإِخْبَارِيَّةُ وَمَوَاقِعُ اَلتَّوَاصُلِ اَلِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمَعَتْ فِكْرَةً في ذهنِها...
سَلْمَى: نَعَمْ سَأَبْدَأُ بِمُبَادَرَةٍ لِجَمْعِ اَلْأَدْوِيَةِ وَالْمَلَابِسِ لِلْمُتَضَرِّرِينَ فِي غَزَّةَ، فِعْلاً بَدَأَتْ بِإِطْلَاقِ اَلْمُبَادَرَةِ، وَخِلَالَ أَيَّامٍ حَصَدَتْ دَعْمًا كَبِيرًا مِنْ اَلشَّرِكَاتِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ، وَتَطَوُّعِ شُبَّانٍ وَشَابَّاتٍ لِلتَّغْلِيفِ وَتَحْضِيرِ اَلطُّرُودِ وَإِرْسَالِهَا إِلَى إخوتنا فِي غَزَّةَ.
شَعَرَتْ سَلْمَى بِالسَّعَادَةِ عِنْدَمَا رُسِمَتْ اَلْبَسْمَةُ عَلَى وُجُوهِهُمْ، وَأَدْرَكْتُ حِينَهَا بِأَنَّ اَلْحَيَاةَ لَا تَقِفُ عِنْدَ عائقٍ، وأَنَّ أَجْمَلُ مَا فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ نُسَاعِدَ اَلْآخَرِينَ.