يشكل إمتهان أي مهنة أمان من الفقر.. فلا شيء في الدنيا يأتي على طبق من ذهب، كما صوّرت لنا أفلام الكرتون قديمًا.
وإن تنوع المهن يمثل إزدهار البلد ونموه.. قد يظنّ الإنسان أنه باستطاعته جلب المال من المهنة التي اختارها والمزايا التي تختص بها عن غيرها من المهن، لكن المتطلع بنظرة ثاقبة يجد أنّ المهنة لا تأتي بالمال فقط لأنها رائجة، بل تحتاج إلى رجل يتقنها ويُداوم على تحسين نفسه بها، فقدر ما يعطيها من الوقت والتعب تعطيه من النجاح والثراء.
إنّ المهنة المختارة مهما كانت تحمل في طياتها المتاعب، تحمل أيضا حلاوة الإتقان، فحينما يبدع الإنسان في مهنته يكون أهلًا، تحميه من الفقر..فهناك فرق بين مهنة يبذل الإنسان لها نفسه، ومن مهنة هدفها تأمين الطعام والشراب فقط.
أعتقد أنّ شخصية الإنسان تظهر من خلال مهنته فتكون هي مرآته..فلو أُريد تشخيص حالته الداخلية ونفسه لكان نتاج عمله خير من يشهد عليه، إن العمل هو الجانب الروحي الذي يتجدد الإنسان من خلاله، وغالبًا ما يختار مهنته تبعًا لدوافع نفسية داخلية، عدا عن أن الإنسان يكتسب من مهنته شيئًا كثيرًا.
فالكاتب مثلًا يكتسب من كثرة القراءة الرقة والنعومة واللفظ الهادئ والنفس السمحة والروح الطيبة، والنّجار يكتسب من الخشب القدرة على التعامل مع الظروف المختلفة من خلال ثني الخشب وحفره وإظهاره وكأنه لوحة فنية منقطعة النظير، لذلك فإنّ من حكمة الله ورحمته بعباده أن جعل لهم تنوعًا في المهن واختلافًا فيها، فليست كلها تصب في بئر واحدة.
إنّ الازدهار الذي يخلفه تنوع المهن عظيم جدًا، فلو إختار الناس كلهم مهنة واحدة لما عمُرت الأرض بل ستزداد البطالة، مثل أن يختار جميع الناس مهنة الطب، فهي على شرفها وعلائها إلا أنّ المجتمع يحتاج إلى الطباخ والعامل والنجار والمصمم والمهندس والمعلم، فتتداخل تلك المهن مع بعضها لتشكل مجتمعًا متماسكًا مكتفيًا بنفسه لا يحتاج لاستقطاب الخبرات من المجتمعات الأخرى وذلك هو عين النجاح، قد يظن بعض الناس أن مهنة أشرف من مهنة، فعامل النظافة ليس كالطبيب وصاحب محل الخضراوات ليس كالمهندس، وهنا تكمن ثقافة المجتمع الخاطئة.
إن المهن تشكل مع بعضها جسرًا قويًا صلبًا متماسكًا يصعب اختراقه، فالمعلم يسهم في بناء الأجيال، والطبيب يسهم في مداواتها، والمهندس يسهم في بناء السكن الآمن لها، وعامل النظافة يسهم في جعل البيئة سلمية خالية من الأوبئة؛ لذلك لا بد من احترام المهن كافّة وتقديرها والإشادة بها، وأن يتقن كل إنسان مهنته ويبدع فيها من موقعه، فإن الله يحب إذا عمل أحدنا عملًا أن يتقنه ويبدع فيه من أجل بناء مجتمع يتمتع بالصدق والإخلاص.
والمهنة هي المصدر الأول الذي يتمكن الإنسان من خلالها أن يعيل نفسه وأن يكسب ماء وجهه فلا يسأل الناس أموالهم، ولما جاء رجل يشكو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفقر والحاجة أمره رسول الله بالعمل، فذهب الرجل واحتطب وصار يأكل من تعب يديه وعرق جبينه، فلا يسأل الناس أموالهم أعطوه أو منعوه، فالعمل واجب على الإنسان والرزق يأتي من الله تبارك وتعالى.